الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
الجزء السادس {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله، وبغضاً للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن، ونَهى المسلمين عن القعود معهم، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق، فيجاهِروهم بقول السوء، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه. روى البخاري: أنّ رجالاً اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: أين مالك بن الدّخْشُم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله، فقال رسول الله: " لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلاّ الله، يريد بذلك وجهَ الله، فقال: فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين ". الحديثَ. فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله. فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقاً. وأيضاً لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين. وجملة {لا يحبّ} مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه: الجهر بالسوء من القول، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن، واستنكار القبيح، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية، وهما الرضا والغضب. وصيغة {لا يحبّ}، بحسب قواعد الأصول، صيغة نفي الإذن. والأصل فيه التحريم. وهذا المراد هنا؛ لأنّ {لا يحبّ} يفيد معنى يكره، وهو يرجع إلى معنى النهي. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ". فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه. والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ. وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريماً. واستثنى {مَن ظُلم} فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول. والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، إذ التقدير: لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً، أي: إلاّ جَهْرَ من ظلم، والمقصود ظاهر، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز. ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّئ ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم {لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول}. وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للناس: إنَّه ظالم. ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهراً لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة. فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه؛ ومنه ما في الحديث " مَطْلُ الغنيّ ظلم " أي فللممطول أن يقول: فلان مماطل وظالم. وفي الحديث " لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته ". وجملة {وكان الله سميعاً عليماً} عطف على {لا يحبّ}، والمقصود أنَّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها، عليم بالمقاصد والأمور كلّها، فذِكْرُ «عليماً» بعد «سميعاً» لقصد التعميم في العلم، تحذيراً من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم. وبعد أن نَهى ورَخّص، ندب المرخَّصَ لهم إلى العفو وقوللِ الخير، فقال: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفواعن سوء فإن الله كان عفواً قديراً}، فإبداء الخير إظهاره. وعُطف عليه {أو تخفوه} لزيادة الترغيب أنْ لا يظنّوا أنّ الثواب على إبداء الخير خاصّة، كقوله: {إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]. والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة، فهو أمر عدميّ. وجملة {فإنّ الله كان عفوّا قديرا} دليل جواب الشرط، وهو علّة له، وتقدير الجواب: يَعفُ عَنكم عند القدرة عليكم، كما أنّكم فعلتم الخير جهراً وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقّكم، لأنّ المأذون فيه شرعاً يعتبر مقدوراً للمأذون، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمّن اقترف ذنباً؛ فذكر {إن تبدوا خيراً أو تخفوه} تكملة لما اقتضاه قوله: {لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول} استكمالاً لموجبات العفو عن السيّئات، كما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم {وأتْبِع السيّئة الحسنةَ تَمْحُها}. هذا ما أراه في معنى الجواب. وقال المفسّرون: جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أنّ فيه تخلّفاً بالكمال، لأنّ صفات الله غاية الكمالات. والتقدير: إن تبدو خيراً الخ تكونوا متخلّقين بصفات الله، فإنّ الله كان عفوّاً قديراً، وهذا التقدير لا يناسب إلاّ قوله: {أو نعفوا عن سوء} ولا يناسب قوله: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه} إلاّ إذا خصّص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم، وإخفائه عمّن ظلمهم. وفي الحديث " أن تَعْفُو عمّن ظلمك وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وتَصِلَ من قطعك ".
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} عادة القرآن عند التعرّض إلى أحوال مَن أظهروا النِّواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين، أو أهل الكتاب، أو المشركين إلى صفات الآخرين، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود وَالنصارى، قاله أهل التفسير. والأظهر أنّ المراد به اليهود خاصّة لأنّهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين، وكان كثير من المنافقين يهوداً وعبّر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخير، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك. وجُمع الرسل لأنّ اليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفّار، أو أراد بالجمع الاثنين، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع، لأنّ المقصود ذمّ مَن هذه صفتهم بدون تعيين فريق، وطريق العرب في مثل هذا أن يعبّروا بصيغة الجموع وإن كان المعرّض به واحداً كقوله تعالى: {أم يحسدون الناس} [النساء: 54] وقوله: {الذين يبْخلون ويأمرون الناس بالبخل} [النساء: 37] {يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " مَا بال أقوام يشترطون شروطاً ". وجيء بالمضارع هنا للدلالة على أنّ هذا أمر متجدّد فيهم مستمرّ، لأنَّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ. ومعنى كفرهم بالله: أنَّهم لمّا آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم واتّخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمّى، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمّى، كما إذا كان أحد يظنّ أنَّه يعرف فلاناً فقلت له: صفه لي، فوصفه بغير صفاته، تقول له: «أنت لا تعرفه»؛ على أنّهم لمَّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث، فقد كفروا بإلهيته الحقّة، إذ منهم من جسّم ومنهم من ثلّث. ومعنى قوله: {ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله} أنّهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة، وفيه إيذان بأنَّه أمر صعب المنال، وأنَّهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك، لأنّهم لم يزالوا يحاولونه، كما دلّ عليه التعبير بالمضارع في قوله: {ويريدون} ولو بلغوا إليه لقال: وفرّقوا بين الله ورسله. ومعنى التفريق بين الله ورسله أنّهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض، ويزعمون أنَّهم يؤمنون بالله، فقد فرّقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه، وهذا استعارة تمثيليّة، شبّه الأمر المتخيّل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة، والغرض من التشبيه تشويه المشبّه، إذ قد علم الناس أنّ التفرقة بين المتّصلين ذميمة. وهذه الآية في معنى الآيات التي تقدّمت في سورة البقرة: {لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]، {لا نفرّق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]، وفي سورة آل عمران {لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [آل عمران: 84] إلاّ أنّ تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله، ومآل الجميع واحد: لأنّ التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله. وإضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة، وهي قوله: {ويقولون نؤمن ببعض}. وجملة {ويقولون نؤمن ببعض} واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله، ولكنَّها عطفت؛ لأنّها شأن خاصّ من شؤونهم، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة، ومدلول {يريدون} هيئة حاصلة من كفرهم، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة، ولو فصلت لكان صحيحاً. ومعنى {يقولون نؤمن} الخ أنّ اليهود يقولون: نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى ومحمد، والنصارى يقولون: نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهراً وفرّقوا بينه وبين بعض رسله. والإرادة في قوله {ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً} إرادة حقيقية. والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤخذة في الآخرة توهّماً أنّ تلك حيلة تحقّق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين، أو سبيل التنصّل من الكفر ببعض الرسل، أو سبيلاً بين دينَين، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق، فكأنّهما تهيئة للنفاق. وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام، وهو أن يكون حرف العطف مشرِّكاً بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة ل {لذين}، كان ما عطف عليه صِلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصِّلات كلّها. ونُسِب إلى بعض المفسّرين أنّه جعل الواوات فيها بمعنى (أو) وجعل الموصول شاملاً لِفرق من الكفّار تعدّدت أحوال كفرهم على توزيع الصِّلات المتعاطفة، فجعلَ المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين، والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله قوماً أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلّها، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهودَ والنصارى. وسكت عن المراد من قوله: {ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً}، ولو شاء لجعل أولئك فريقاً آخر: وهم المنافقون المتردّدون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر، بل كانوا بين الحالين، كما قال تعالى: {مذبذبين بين ذلك} [النساء: 143]. والذي دعاه إلى هذا التأويل أنَّه لم يجد فريقاً جمع هذه الأحوال كلّها على ظاهرها لأنّ اليهود لم يكفروا بالله ورسله، وقد علمت أنّ تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يَستلزم الكفر بها نفي الإلهية. وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال: والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله والذين يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما قال: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا} [الأنفال: 72]. وقوله: {أولئك هم الكافرون حقاً} الجملة خبر إنّ والإشارة إلى أصحاب تلك الصلة الماضية، وموقع الإشارة هنا لقصد التنبيه على أنّ المشار إليهم لاستحضارهم بتلك الأوصاف أحرياء بما سيحكم عليهم من الحكم المعاقِب لاسم الإشارة. وأفاد تعريف جزأي الجملة والإتيانُ بضمير الفصل تأكيدَ قصرِ صفة الكفر عليهم، وهو قصر ادّعائي مجازيّ بتنزيل كفر غيرهم في جانب كفرهم منزلة العدم، كقوله تعالى في المنافقين: {هم العدوّ} [المنافقون: 4]. ومثل هذا القصر يدلّ على كمال الموصوف في تلك الصفة المقصورة. ووجه هذه المبالغة: أنّ كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر، وعلى سفالة في الخُلُق، أو سفاهة في الرأي بمجموع ما حكي عنهم من تلك الصِلات، فإنّ كلّ خصلة منها إذا انفردت هي كفر، فكيف بها إذا اجتمعت. و {حقّا مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، أي حُقَّهم حقّا أيّها السامع بالِغين النهاية في الكفر، ونظير هذا قولهم: (جِدّاً). والتوكيد في مثل هذا لمضمون الجملة التي قبله على ما أفادته الجملة، وليس هو لرفع المجاز، فهو تأكيد لما أفادته الجملة من الدلالة على معنى النهاية لأنّ القَصْر مستعمل في ذلك المعنى، ولم يقصد بالتوكيد أن يصير القصر حقيقيّاً لظهور أنّ ذلك لا يستقيم، فقول بعض النحاة، في المصدر المؤكّد لمضمون الجملة: إنَّه يفيد رفع احتمال المجاز، بناء منهم على الغالب في مفاد التأكيد. وأعتدنا} معناه هيّأنا وقدّرنا، والتاء في {أعتدنا} بدل من الدال عند كثير من علماء اللغة، وقال كثير منهم: التاء أصلية، وأنّه بناء على حدة هو غير بناء عَدّ. وقال بعضهم: إنّ عَتد هو الأصل وأنّ عدّ أدغمّت منه التاء في الدال، وقد ورد البناءان كثيراً في كلامهم وفي القرآن. وجيء بجملة {والذين آمنوا بالله ورسله} إلى آخرها؛ لمقابلة المسيئين بالمحسنين، والنذارةِ بالبشارة على عادة القرآن. والمراد بالذين آمنوا المؤمنون كلّهم وخاصّة من آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام. فهم مقصودون ابتداء لما أشعر به موقع هذه الجملة بعد ذكر ضلالهم ولما اقتضاه تذييل الجملة بقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} أي غفوراً لهم ما سلف من كفرهم، رحيماً بهم. والقول في الإتيان بالموصول وباسم الإشارة في هذه الجملة كالقول في مقابله. وقوله: {بين أحد منهم} تقدّم الكلام على مثله في قوله تعالى: {لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} في سورة البقرة (136). وقرأ الجمهور: {نؤتيهم} بنون العظمة. وقرأه حفص عن عاصم بياء الغائب والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {والذين آمنوا بالله ورسله}.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)} لمَّا ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم. والجملة استئناف ابتدائي. ومجيء المضارع هنا: إمّا لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتّى كأنّ السامع يراهم كقوله: {ويَصْنَعُ الفُلْك} [هود: 38]، وقوله: {بل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون} [الصافات: 12]، وقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً} [فاطر: 9]. وإمَّا للدلالة على تكرار السؤال وتجدّده المرّة بعد الأخرى بأن يكونوا ألَحّوا في هذا السؤال لِقصد الإعنات، كقول طريف بن تميم العنبري: بعثوا إليّ عَريفَهم يَتَوَسَّمُ *** أي يكرّر التوسّم. والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال، ولذلك قال بعده: {فقد سألوا موسى}. والسَّائلُون هم اليهود، سألوا معجزة مثلَ معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهّمه بعض المفسّرين فإنّ كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة. فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود. والكتاب هنا إمَّا اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى، وإمّا اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى. والفاء في قوله: {فقد سألوا موسى} فاء الفصيحة دالّة على مقدّر دلّت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب، أي فلا تعجب من هذا فإنّ ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم، وقد تقدّم بيان كثير منه في سورة البقرة. وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ودلالة على جراءتهم، وإظهارُ أنّ الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدّي الأنبياء، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء، إذ يتلقّون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامَّة والخاصّة، وهذا ممَّا يحُطّ من مقدار الرسالة. وفي إنجيل متَّى: أنّ قوماً قالوا للمسيح: نريد أن نرى منك آية فقال: «جِيل شِرّير يطلب آية ولا تعطى له آية». وتكرّر ذلك في واقعة أخرى. وقد يُقبل ذلك من المؤمنين، كما حكى الله عن عيسى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن يُنزّل علينا مائدة من السماء قال اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين إلى قوله قال الله إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنِّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين} [المائدة: 112، 115]، وقال تعالى: {وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأوّلون وآتينا ثمودَ الناقةَ مُبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59]. وهم لمّا سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمّن بالله، ولا التنعّم بالمشاهدة، ولكنَّهم أرادوا عَجَباً ينظرونه، فلذلك قالوا: {أرِنا الله جهرة}، ولم يقولوا: ليتنا نرى ربّنا. {وجَهْرَة} ضدّ خُفية، أي عَلَناً، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من (أرنا)، ويجوز أن يكون حالاً من المرفوع في (أرنا): أي حال كونك مجاهراً لنا في رؤيته غير مخف رؤيته. واستطرد هنا ما لحقهم من جرّاء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتّب عليه فقال: {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم}، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة (55) بقوله: {فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. وكان ذلك إرهاباً لهم وزجراً، ولذلك قال: بظلمهم} والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية؛ لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى: حكاه الله عنه بقوله: {ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك} الآية في سورة الأعراف (143). وبيّن أنّهم لم يردعهم ذلك فاتَّخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البيّنات الدالّة على وحْدانية الله ونفي الشريك وعطفت جملة اتّخاذهم العجل بحرف (ثمّ) المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبى. فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطاناً مبيناً، أي حجّة واضحة عليهم في تمرّدهم، فصار يزجرهم ويؤنّبهم. ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتّخذوه إلهاً. ثم ذكر آيات أخرى أظهرها الله لهم وهي: رفع الطور، والأمر بقتال أهل أريحا، ودخولهم بابها سجّداً. والباب يحتمل أنّه باب مدينة أريحا، ويحتمل أنّه باب الممرّ بين الجبال ونحوها، كما سيأتي عند قوله تعالى: {قال رجلان من الذين يخافون إلى قوله ادخلوا عليهم الباب} في سورة العقود (23)؛ وتحريم صيد البحر عليهم في السبت. وقد مضى الكلام عليها جميعاً في سورة البقرة. وأخذ الميثاق عليهم: المراد به العهد، ووصفُه بالغليظ. أي القويّ، والغلظ من صفات الأجسام، فاستعير لقوّة المعنى وكنّى به عن توثّق العهد لأنّ الغلظ يستلزم القوّة، والمراد جنس الميثاق الصادق بالعهود الكثيرة التي أخذت عليهم، وقد ذكر أكثرها في آي سورة البقرة، والمقصود من هذا إظهار تأصّلهم في اللجاج والعناد، من عهد أنبيائهم، تسلية للنبيء على ما لقي منهم، وتمهيداً لقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155]. وقوله: {لا تعدوا} قرأه نافع في أصحّ الروايات، وهي لورش عنه ولقالون في إحدى روايتيه عنه بفتح العين وتشديد الدال المضمومة أصله: لا تعْتدوا، والاعتداء افتعال من العَدوْ، يقال: اعتدى على فلان، أي تجاوز حدّ الحقّ معه، فلمّا كانت التاء قريبة من مخرج الدال ووقعت متحرّكة وقبلها ساكن، تهيّأ إدغامها، فنقلت حركتها إلى العين الساكنة قبلها، وأدغمت في الدال إدغاماً لقصد التخفيف، ولذلك جاز في كلام العرب إظهارها؛ فقالوا: تَعْتَدوا وتَعَدّوا، لأنَّها وقعت قبل الدال، فكانت غير مجذوبة إلى مخرجه، ولو وقعت بعد الدال لوجب إدغامها في نحو أدّان. وقرأ الجمهور، وقالون في إحدى روايتين عنه: «لا تَعْدوا» بسكون العين وتخفيف الدال مضارع مجزوم من العدو، وهو العُدوان، كقوله: {إذ يَعْدون في السبت} في سورة الأعراف (163)؛ وفي إحدى روايتين عن قالون: باختلاس الفتحة، وقرأه أبو جعفر: بسكون العين وتشديد الدال، وهي رواية عن نافع أيضاً، رواها ابن مجاهد. قال أبُو علي، في الحُجَّة}: وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذ كان الثاني منهما مدغماً ولم يكن الأول منهما حرف لين، نحو دابَّة، يقولون: المدّ يصير عوضاً عن الحركة، قال: وإذا جاز نحو دُوَيْبَّة مع نقصان المدّ الذي فيه لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو: تَعدُوا. لأنّ ما بين حرف اللين وغيره يَسير، أي مع عدم تعذّر النطق به.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} التفريع على قوله: {وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [النساء: 154] والباء للسبيبة جَارّة ل {نقضهم}، و(وما) مزيدة بعد الباء لتوكيد التسبّب. وحرف (ما) المزيد بعد الباء لا يكفّ الباء عن عمل الجرّ وكذلك إذا زيد (ما) بعد (من) وبعد (عن). وأمّا إذا زيد بعد كاف الجرّ وبعد ربّ فإنّه يكفّ الحرف عن عمل الجرّ. ومتعلَّق قوله {بما نقضهم}: يجوز أن يكون محذوفاً، لتذهب نَفْس السامع في مذاهب الهول، وتقديره: فعَلْنا بهم ما فَعَلْنا. ويجوز أن يتعلّق ب {حرّمْنا عليهم طيّبات أحلّت لهم} [النساء: 160]، وما بينهما مستطردات، ويكون قوله: {فبظلم من الذين هَادُوا} [النساء: 160] كالفذلكة الجامعة لِجرائمهم المعدودة من قبل. ولا يصلح تعليق المجرور ب {طَبَعَ} لأنَّه وقع ردّا على قولهم: {قلوبنا غلف}، وهو من جملة المعطوفات الطالبة للتعلّق، لكن يجوز أن يكون «طبع» دليلاً على الجواب المحذوف. وتقدّم تفسير هذه الأحداث المذكورة هنا في مواضعها. وتقدّم المتعلِّق لإفادة الحصر: وهو أن ليس التحريم إلاّ لأجللِ ما صنعوه، فالمعنى: ما حرمنا عليهم طيّبات إلاّ بسبب نقضهم، وأكّد معنى الحصر والسَّبب بما الزائدة، فأفادت الجملة حصراً وتأكيداً. وقوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} اعتراض بين المعَاطيف. والطبع: إحْكام الغلق بجعل طين ونحوه على سدّ المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرِج ما فيه إلاّ بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يَسِمُون على ذلك الغلق بسمة تترك رسماً في ذلك المجعول، وتسمّى الآلة الواسمة طابعاً بفتح الباء فهو يرادف الخَتْم. ومعنى {بكفرهم} بسببه، فالكفرُ المتزايد يزيد تعاصي القلوب عن تلقّي الإرشاد، وأريد بقوله: {بكفرهم} كفرهم المذكور في قوله: {وكفرهم بآيات الله}. والاستثناء في قوله: {إلا قليلاً} من عموم المفعول المطلق: أي لا يؤمنون إيماناً إلاّ إيماناً قليلا، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه إذ الإيمان لا يقبل القلّة والكثرة، فالقليل من الإيمان عدم، فهو كفر. وتقدّم في قوله: {فقليلاً ما يؤمنون} [البقرة: 88]. ويجوز أن يكون قلّة الإيمان كناية عن قلّة أصحابه مثل عبد الله بن سلاَم.
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن}. عُطف {وبكفرهم} مرّة ثانية على قوله: {فبما نقضهم} [النساء: 155] ولم يُستغن عنه بقوله: {وكفرِهم بآيات الله} [النساء: 155] وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرفُ العطف قصداً للتأكيد، واعتبر العطف لأجل بُعْد ما بيّن اللفظين، ولأنَّه في مقام التهويل لأمر الكفر، فالمتكلّم يذكره ويُعيده: يتثبّت ويُرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به، ونظير هذا التكرير قول لبيد: فتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظلالُه *** كدُخان مُشْعَلَة يُشَبُّ ضِرامُها مَشْمُولة غُلِثَتْ بنابت عرفج *** كَدُخَان نار سَاطِع أسْنَامُها فأعاد التشبيه بقوله: (كدُخان نَار) ليحقّق معنى التشبيه الأوّل. وفي «الكشاف» «تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلوات الله عليهم فعطف بعض كفرهم على بعض»، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفاً للذي قبله باعتبار عطف قوله: {وقولهم على مريم بهتاناً}. ونظيره قول عويف القوافي: اللؤم أكرمُ من وَبْر ووالدِه *** واللؤمُ أكرم من وَبْرٍ وما ولدا إذْ عطف قوله: (واللؤم أكرم من وبر) باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قولُه: (وما ولدا). والبهتان مصدر بَهَتَه إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا، والذي يتعمّد ذلك بَهُوت، وجمعه: بُهُت وبُهْت. وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم عليها السلام. أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه: هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين. والمسيح كان لَقباً لعيسى عليه السلام لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه: لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك، كما تقدّم في قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} في سورة آل عمران (45)، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقباً له بينهم. وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له. ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم، قالت امرأة أبي لهب: مذمَّماً عصينا، وأمره أبينا. فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد. وقوله: رسول الله} إن كان من الحكاية: فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصبُ {رسول الله} على المدح، وإن كان من المحكي: فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم {يَأيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون} [الحجر: 6] وقول أهل مدين لشعيب {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد} [هود: 87] فيكون نصب «رسول الله» على النعت للمسيح. وقوله {وما قتلوه} الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات: إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد. وعطف {وما صلبوه} لأنّ الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيباً له ثم عفوا عنه، وقال تعالى: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا} [المائدة: 33]. والمشهور في الاستعمال: أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه. وجملة {ولكن شبَّه لهم} استدراك، والمستدرك هو ما أفاده {وما قتلوه} من كون هذا القول لا شبهة فيه. وأنَّه اختلاق محض، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح، وهي ما رَأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه. وقوله: {شبّه لهم} يحتمل أن يكون معناه: أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله: {شبِّه} فعلاً مبْنيّاً للمجهول، مشتقّاً من الشبه، وهو المماثلة في الصورة. وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل (شبّه) للدلالة فعل (شبّه) عليه؛ فالتقدير: شبِّه مشبَّه فيكون «لهم» نائباً عن الفاعل. وضمير (لهم) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظنّ بكذا. والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال. ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب: خُيِّل إليك، واختُلِط على فلان. وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل: أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم، أي لتضليلهم، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم. أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]. ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شُبّه معنى صُنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم. وفي الأخبار أنّ (يهوذا الاسخريوطي) أحد أصحاب المسيح، وكان قد ضلّ ونافق، هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهُو الذي ألْقَى الله عليه شبهَ عيسى، وأنَّه الذي صُلب، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين، وهذا يلائم الاحتمال الأول. ويقال: إنّ (بيلاطس)، وَاليَ فلسطين، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وَصَلبه فأجاب بأنّه لا عِلم له بشيء من هذه القضية، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه، ولم يقع، وإنَّما اختلق اليهود خبره، وهذا يلائم الاحتمال الثاني. والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن: أنّ المسيح لم يُقتل، ولا صُلب، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل. وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى: {إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ} في سورة آل عمران [55] وقوله: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه} يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح. والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين: فجمهورهم يقولون: قتلته اليهود، وبعضهم يقول: لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتاباً محرّفاً فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه، بل يخالج أنفسهم الشكّ، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ. فالمراد بالظنّ هنا: معنى الشكّ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن {إنّ بعض الظنّ إثم} [الحجرات: 12]، وفي الحديث الصحيح: «إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث» فالاستثناء في قوله {إلاّ اتّباع الظنّ} مُنقطع، كقول النابغة: حَلفت يميناً غير ذي مثنوية *** ولا عِلْمَ إلاّ حُسنَ ظنّ بصَاحب يجوزُ أن يكون معطوفاً على قوله: {وما قتلوه وما صلبوه} ويجُوز أن يعطف على قوله: {مالهم به من علم}. واليقين: العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، فهو اسمُ مصدر، والمصدر اليَقَن بِالتحريك، يقال: يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يُوقن إيقاناً، وهو الشائع. وقوله {يقيناً} يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله: لأنّ مضمون: {وما قتلوه يقينا} بعد قوله: {وقولهم إنّا قتلنا المسيح} إلى قوله {وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم} يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن، فصحّ أن يكون يقيناً مؤكّداً لهذا المضمون. ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في {قتلوه}، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه، ويكون النفي منصبّاً على القيد والمقيّد معاً، بقرينة قوله قبله {ومَا قتلوه وما صلبوه}، أي: هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته. وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام. ويجوز أن يكون القتل مستعملاً مجازاً في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم: قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها، وقولهم: قَتَل أرضاً عالِمُها، ومن شعر «الحماسة» في بَاب الهجاء: يَروعك من سعدِ ابن عمرو جُسومها *** وتزهَد فيها حين تقتلُهَا خُبْراً وقول الشاعر: كذلِكَ تخبر عنهَا العالمات بها *** وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يَقَنا وقول الآخر: قتلتني الأيام حين قتلتها *** خبُرا فأبْصِرْ قَاتلاً مقتولاً وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى العلم من قوله تعالى {ما لهم به من علم}، فيكون {يقيناً} على هذا تمييزاً لنسبة (قتلوه). ولذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله: {بل رفعه الله إليه} أي فلم يظفروا به. والرفع: إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات، و(إلى) إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى. وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى عليه السّلام بقي حيّاً أوْ أماته الله، عند قوله تعالى: {إنّي متوفّيك ورافِعك إليّ} في سورة آل عمران (55). والتذييل بقوله: وكان الله عزيزاً حكيماً} ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يُعِزّ أولياءَه، ولمّا كان حكيماً فقد أتقن صُنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين، وتبصرة للمؤمنين، وعقوبة ليهوذا الخائن.
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} عطف على جملة {وما قتلوه} [النساء: 157]. وهذا الكلام إخبار عنهم، وليس أمراً لهم، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية. و{إن} نافية و{من أهل الكتاب} صفة لموصوف محذوف تقديره: أحد. والضمير المجرور عائد لعيسى: أيّ ليومنَنّ بعيسى، والضمير في {موته} يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب، أي قبل أن يموت الكتابيّ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب {إلا ليؤمنن به قبل موته}. وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه. وقيل: كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله. وعندي أنّ ضمير {به} راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل {رفعه الله إليه} [النساء: 158]، ويعمّ قولُه {أهللِ الكتاب} اليهودَ، والنّصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب. والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام. وقيل: الضمير في قوله {موته} عائد إلى عيسى، أي قبل موت عيسى، ففرّع القائلون بهذا تفاريع: منها أنّ موته لا يقع إلاّ آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته، فلزم أن يكون موته مستقبلاً؛ ومنها ما ورد في الحديث: أنّ عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب، ولا يخفى أنّ عموم قوله: {وإن من أهل الكتاب} يبطل هذا التفسير: لأنّ الَّذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم. والشهيد: الشاهد؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا، وبأنّ النّصَارى بدّلوا، ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} الآيَات في سورة العقود (109).
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)} إن كان متعلَّق قوله: {فبما نقضهم} النساء: 155) محذوفاً على أحد الوجهين المتقدّمين كان قوله: {فبظلم} مفرّعاً على مجموع جرائمهم السالفة. فيكون المراد بظلمهم ظلماً آخر غير ما عُدّد من قبل، وإن كان قوله: {فبما نقضهم} [النساء: 155] متعلّقاً بقوله: {حرّمنا عليهم} فقوله: {فبظلم} الخ بَدَل مطابق من جملة {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل. وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلّقه بقوله: {حرّمنا عليهم طيّبات} إذ بَعُد ما بينه وبين متعلّقه، وهو قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155] ليقوى ارتباط الكلام. وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه: لأنّ نقض الميثاق، والكفر، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتاناً، وقولهم قتلنا عيسى: كلّ ذلك ظلم. فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدّم، كأنَّه قيل: فبذلك كلّه حرّمنا عليهم، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنّه أحسن تفنّناً، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة. وقد مرّ بيان ذلك قريباً عند قوله تعالى: {فبما نقضهم} [النساء: 155]. ويجوز أن يكون ظلماً آخر أجْملَهُ القرآن. وتنكير (ظلم) للتعظيم، والعدولُ عن أن يقول «فبظلمهم»، حتّى تأتي الضمائر متتابعة من قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم} إلى آخره، إلى الاسم الظاهر وهو {الَّذين هادوا} لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها: وهي {فبما نقضهم} [النساء: 155]. ولأنّ في الموصول وصلته ما يقتضي التنزّه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم، فقالوا: {إنّا هدنا إليك} [الأعراف: 156]؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محلّ استغراب. والآية اقتضت: أنّ تحريم ما حرّم عليهم إنَّما كان عقاباً لهم، وأنّ تلك المحرّمات ليس فيها من المفاسد ما يتقضي تحريم تناولها، وإلاّ لحُرمّت عليهم من أوّل مجيء الشريعة. وقد قيل: إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظُفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إلى قوله ذلك جزيناهم ببغيهم} في سورة الأنعام (146)، فهذا هو الجزاء على ظلمهم. نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنَّه قال: نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان، فلم يُجِز أن يكون التكليف جزاء على الجرم. قال الفخر: والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم. وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تُخصّ بالمجرمين ثُمّ تنسخ. فالذي يظهر لي في الجواب: إمَّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوَة صار ذلك طبعاً في أمزجتهم فاقتضى أن يلطِّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقاباً للذين ظلموا وبغوا ثُمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذِكْرى ويكون للأوّلين سُوء ذِكر من باب قوله: {واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة} [الأنفال: 25]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأوللِ كِفْل من دمها». ذلك لأنّه أوّل من سَنّ القتل. وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك. وصَدّهم عن سبيل الله: إن كان مصدرَ صَدّ القاصر الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد فالعنى بإعراضهم عن سبيل الله؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قِياس مضارعه بضمّ الصاد، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى، ويقولون: سيغفر لنا، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات. أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيراً، وعاندوا الأنبياء، وحاولوهم على كتم المواعظ، وكذّبوا عيسى، وعارضوا دعوة محمّد صلى الله عليه وسلم وسوّلوا لكثير من النّاس، جهراً أو نفاقاً، البقاء على الجاهليّة، كما تقدّم في قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51] الآيات. ولذلك وصف ب {كثيراً} حالاً منه. وأخذُهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصّة ويسوغ لهم أخذه من غير الإسرائليّين كما في الإصحاح23 من سفر التثنية «لا تقرض أخاك بربا ربَا قضّةٍ أو ربا طعام أو ربا شيء مّا ممّا يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا». والربا محرّم عليهم بنصّ التوراة في سفر الخروج في الإصحاح22 «أن أقرضَت فضّة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا» وأكلُهم أموال النّاس بالباطل أعمّ من الربا فيشمل الرشوة المحرّمة عندهم، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم، وغير ذلك. والاستدراك بقوله: {لكن الراسخون في العلم} الخ ناشيء على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله: {يسألك أهل الكتاب} [النساء: 153] من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهَّم، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق. والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العِلم} في سورة آل عمران (7). والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت، فليس بينه وبين الحقّ حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات. وعطفُ المؤمنون} على {الراسخون} ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارقَ للعادة. فلذلك قال {يؤمنون}، أي جميعهم بما أنزل إليك، أي القرآن، وكفاهم به آية، وما أنزل من قبلك على الرسل، ولا يعادون رسل الله تعصّباً وحميّة. والمراد بالمؤمنين في قوله: {والمؤمنون} الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنَ به. وعطف {المقيمين} بالنصب ثبت في المصحف الإمام، وقرآه المسلمون في الأقطار دون نكير؛ فعلمْنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامدَ، على أمثالها، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفعُ على الاستئناف للاهتمام، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة، سواء كانت بدون عطف أم بعطف، كقوله تعالى: {ولكنْ البِرّ من آمن إلى قوله والصابرين} [البقرة: 177]. قال سيبويه في «كتابه» «بابُ ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جَعلته صفة فجرَى على الأول، وإن شئتَ قطعته فابتدأتَه». وذَكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال: «فلو كان كلُّه رفعاً كان جيّداً»، ومثْله {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضّرّاء} [البقرة: 177]، ونظيره قول الخِرْنق: لا يبْعَدَنْ قومي الذي هُمُو *** سُمّ العُداة وآفَة الجزر النازلون بكلّ معترك *** والطيِّبيّين معاقِدَ الأزْر في رواية يونس عن العرب: برفع (النازلون) ونصب (الطيِّبيين)، لتكون نظير هذه الآية. والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية، وفي قوله: {والصابون} في سورة المائدة (69). وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب {المقيمين} خطأ، من كاتب المصحف وقد عَدّتْ من الخطأ هذه الآية. وقوله: {ولكن البرّ من آمن بالله إلى قوله والصابرين في البأساء} [البقرة: 177] وقولهِ: {إِنّ هذَان لساحرانِ} [طه: 63]. وقوله: {والصابُون} في سورة المائدة (69). وقرأتْها عائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبَي بن كعب، والحسن، ومالك بن دينار، والجحدري، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، وعمرو بن عبيد: والمقيمون} بالرفع. ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة. ومن النّاس من زعم أنّ نصب {المقيمين} ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم: «أحسنتم وأجملتم وأرى لحناً قليلاً ستُقيمه العرب بألْسنتها». وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نُسبت إليهم. ومن البعيد جدّاً أن يخطئ كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطأ دون سابقتها أو تابعتها، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّهِ. ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحاً. وقد علمتَ وجه عربيّته في المتعاطفات، وأمّا وجه عربية {إنّ هذان لساحران} فيأتي عند الكلام في سورة طه (63). والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألِفات المحذوفة. قال صاحب الكشاف}: «وهُم كانوا أبْعَدَ همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يَلْحَق بهم». وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى: {والصابرين في البأساء والضرّاء} في سورة البقرة (177). والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنَّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد وقد ورد في الحديث الصّحيح: أنّ لهم أجرين، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنَّهم سبقوا غيرهم بالإيمان. وقرأ الجمهور: سنوتيهم} بنون العظمة وقرأه حمزة وخلف بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {والمؤمنون بالله}.
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} استأنفتْ هذه الآياتُ الردّ على سؤال اليهود أن يُنَزّل عليهم كتاباً من السماء، بعد أن حُمقوا في ذلك بتحميق أسلافهم: بقوله: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} [النساء: 153]، واستُطردت بينهما جمل من مخالفة أسلافهم، وما نالهم من جرّاء ذلك، فأقبل الآن على بيان أنّ إنزال القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم لم يكن بِدْعاً، فإنّه شأن الوحي للرسل، فلم يقدح في رسالتهم أنَّهم لم ينزّل عليهم كتاب من السماء. والتأكيد (بإنّ) للاهتمام بهذا الخبر أو لتنزيل المردود عليهم منزلة من ينكر كيفيّة الوحي للرسل غير موسى، إذ لم يَجْروا على موجب علمهم حتّى أنكروا رسالة رسول لم يُنْزل إليه كتاب من السماء. والوحي إفادة المقصود بطريق غير الكلام، مثل الإشارة قال تعالى: {فخرج على قومه من المحراب فأوحَى إليهم أن سبّحوا بكرة وَعَشِيّاً} [مريم: 11]. وقال داوود بن جرير: يَرْمُون بالخُطب الطِواللِ وتارةً *** وَحْيُ اللواحِظِ خيفَةَ الرقباء والتشبيه في قوله: {كما أوحينا إلى نوح} تشبيه بجنس الوحي وإن اختلفت أنواعه، فإنّ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بأنواع من الوحي ورد بيانها في حديث عائشة في الصحيح عن سؤال الحارث بن هشام النّبيء صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي بخلاف الوحي إلى غيره ممّن سمّاهم الله تعالى فإنّه يحتمل بعض من الأنواع، على أنّ الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم كان منه الكتاب القرآن ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب. وعدّ الله هنا جمعاً من النبيئين والمرسلين وذكر أنّه أوحي إليهم ولم يختلف العلماء في أنّ الرسل والأنبياء يُوحى إليهم. وإنَّما اختلفت عباراتهم في معنى الرسول والنبي. ففي كلام جماعة من علمائنا لا نجد تفرقة، وأنّ كلّ نبيء فهو رسول لأنَّه يوحى إليه بما لا يخلو من تبليغه ولو إلى أهل بيته. وقد يكون حال الرسول مبتدأ بنبؤة ثمّ يعقبها إرساله، فتلك النبوة تمهيد الرسالة كما كان أمر مبدإ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّه أخبر خديجة، ونزل عليه: {وأنذر عشيريتك الأقربين} [الشعراء: 214]. والقول الصحيح أنّ الرسول أخصّ، وهو من أوحي إليه مع الأمر بالتبليغ، والنبي لا يؤمر بالتبليغ وإن كان قد يبلّغ على وجه الأمر بالمعروف والدعاء للخير، يعني بدون إنذار وتبشير. وورد في بعض الأحاديث: الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وعدّ الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً. وقد ورد في حديث الشفاعة، في الصحيح: أنّ نوحاً عليه السلام أوّل الرسل. وقد دَلَّت آيات القرآن على أنّ الدّين كان معروفاً في زمن آدم وأنّ الجزاء كان معلوماً لهم، فقد قَرّب ابنَا آدَمَ قرباناً، وقال أحدهما للآخر {إنَّما يتقبّل الله من المتّقين} [المائدة: 27]، وقال له: {إني أخاف الله ربّ العالمين إني أريد أن تَبوء بإثمي وإثمك فتكونَ من أصحاب النّار وذلك جزاءُ الظّالمين} [المائدة: 28، 29]. ودلّ على أنَّه لم يكن يومئذٍ بينهم من يأخذ على يد المعتدي وينتصف للضعيف من القويّ، فإنَّما كان ما تعلّموه من طريقة الوعظ والتعليم وكانت رسالة عائليَة. ونوح هو أوّل الرسل، وهو نوح بن لامَك، والعرب تقول: لَمَك بن متوشالح بن أخنوخ. ويسمّيه المصريون هُرمس، ويسمّيه العرب إدريس بن يارد بن مَهْلَلْئِيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، حسب قول التَّوْراة. وفي زمنه وقع الطّوفان العظيم. وعاش تسعمائة وخمسين سنة، وقيل تسعمائة وتسعين سنة، والقرآن أثبت ذلك. وقد مات نوح قبل الهجرة بثلاثة آلاف سنة وتسعمائة سنة وأربع وسبعين سنة على حسب حساب اليهود المستمَدّ مِن كتابهم. وإبراهيم هو الخليل، إبراهيم بن تارح والعرب تسمّيه آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح. ولد سنة2893 قبل الهجرة، في بلد أوُر الكلدانيين، ومات في بلاد الكنعانيين، وهي سوريا، في حبرون حيث مدفنه الآن المعروف ببلد الخليل سنة2718 قبل الهجرة. وإسماعيل هو ابن إبراهيم مِن الجارية المصرية هَاجَر. توفِّي بمكة سنة2686 قبل الهجرة تقريباً. وكان إسماعيل رسولاً إلى قومه الذين حلّ بينهم من جُرهم وغيرهم، وإلى أبنائه وأهله، قال تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّا} [مريم: 54]. وإسحاق هو ابن إبراهيم مِن سارة ابنة عمّه، توفّي قبل الهجرة سنة2613، وكان إسحاق نبيّاً مؤيّداً لشرع أبيه إبراهيم ولم يجئ بشرع. ويعقوب هو ابن إسحاق، الملقّبُ بإسرائيل. توفّي سنة2586 قبل الهجرة. وكان يعقوب نبيّاً مؤيّداً لِشرع إبراهيم، قال تعالى: {ووصى بها إبراهيم بَنيه ويعقوب} [البقرة: 132] ولم يجئ بشرع جديد. والأسباط هم أسباط إسحاق، أي أحفاده، وهم أبناء يعقوب اثنا عشر ابناً: روبين، وشمعون، وجاد، ويهوذا، ويساكر، وزَبُولُون، ويوسف، وبنيامين، ومنسَّى، ودَان، وأَشير، وثَفتالي. فأمّا يوسف فكان رسولاً لقومه بمصر. قال تعالى خطاباً لبني إسرائيل على لسان مؤمن بني إسرائيل، أو خطاباً من الله {ولقد جاءكم يوسفُ من قبلُ بالبيِّنات فما زِلْتُمْ في شكّ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً} [غافر: 34]. وأمّا بقية الأسباط فكان كلّ منهم قائماً بدعوة شريعة إبراهيم في بنِيه وقومه. والوحي إلى هؤلاء متفاوت. وعيسى هو عيسى ابن مريم، وُلد من غير أب قبل الهجرة سنة622. ورفع إلى السماء قبلها سنة589. وهو رسول بشرع ناسخ لبعض أحكام التّوراة. ودامت دعوته إلى الله ثلاث سنين. وأيوب هو نبيء. قيل: إنّه عربي الأصل من أرض عُوص، في بلاد أَدوم، وهي من بلاد حَوران، وقيل، هو أيوب بن ناحور أخي إبراهيم، وقيل: اسمه عوض، وقيل: هو يوباب ابن حفيد عيسو. وقيل: كان قبل إبراهيم بمائة سنة. والصحيح أنَّه كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح، أي في القرن الحادي والعشرين قبل الهجرة. ويقال: إنّ الكتاب المنسوب إليه في كتب اليَهود أصله مؤلف باللغة العربيّة وأنّ موسى عليه السّلام نقله إلى العبرانيّة على سبيل الموعظة، فظنّ كثير من الباحثين في التّاريخ أنّ أيوب من قبيلة عربيّة. وليس ذلك ببعيد. وكان أيوب رسولاً نبيّا. وكان له صاحب اسمه اليفاز اليماني هو الّذي شدّ أزره في الصبر، كما سنذكره في موضعه. وإنّما منع اسمه من الصرف إذ لم يكن من عرب الحجاز ونجد؛ لأنّ العرب اعتبرت القبائل البعيدة عنها عجماً، وإن كان أصلهم عربياً، ولذلك منعوا ثمودَ من الصرف إذ سكنوا الحِجر. ويونس هو ابن متَّى من سبط زبولون من بني إسرائيل، بعثه الله إلى أهل نَيْنوَى عاصمة الأشوريين، بعد خراب بيت المقدس، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة. وهارون أخو موسى بن عمران توفّي سنة 1972 قبل الهجرة وهو رسول مع موسى إلى بني إسرائيل. وسليمانُ هو ابن داود. كان نبيّاً حاكماً بالتّوراة وَمَلِكاً عظيماً. توفّي سنة1597 قبل الهجرة. وممّا أوحى الله به إليه ما تضمّنه كتاب «الجامعة» وكتاب «الأمثال من الحكمة والمواعظ»، وهي منسوبة إلى سليمان ولم يقل فيها إنّ الله أوحاها إليه؛ فعلمنا أنّها كانت موحى بمعانيها دون لفظها. وداود أبُو سليمان هو داود بن يسي، توفّي سنة1626 قبل الهجرة، بعثه الله لنصر بني إسرائيل. وأنزل عليه كتاباً فيه مواعظ وأمثال، كان بنو إسرائيل يترنّمون بفصوله، وهو المسمّى بالزبور. وهو مصدر على وزن فَعول مثل قَبول. ويقال فيه: زبُور بضم الزاي أي مصدراً مثل الشُّكور، ومعناه الكتابة ويسمّى المكتوب زَبوراً فيجمع على الزّبر، قال تعالى: {بالبيّنات والزبر} [آل عمران: 184]. وقد صار علماً بالغلبة في لغة العرب على كتاب داود النبي، وهو أحد أسفار الكتاب المقدّس عند اليهود. وعُطفت جملة {وآتينا داوود زبورا} على {أوحينا إليك}. ولم يعطف اسم داود على بقيّة الأسماء المذكورة قبله للإيماء إلى أنّ الزبور موحى بأن يكون كتاباً. وقرأ الجمهور {زَبورا} بفتح الزاي، وقرأه حمزة وخلف بضمّ الزاي. وقوله: {ورُسلا قد قصصناهم عليك من قبل} يعني في آي القرآن مثل: هود، وصالح، وشعيب، وزكرياء، ويحيى، وإلياس، والْيسع، ولوط، وتبّع. ومعنى قوله: {ورسلاً لم نقصصهم عليك} لم يذكرهم الله تعالى في القرآن، فمنهم من لم يرد ذكره في السنّة: مثل حنظلة بن صفوان نبيء أصحاب الرسّ، ومثل بعض حكماء اليونان عند بعض علماء الحكمة. قال السهروردي في «حكمة الإشراق»: «منهم أهل السفارة». ومنهم من ذكرته السنّة: مثل خالد بن سنَان العبسي. وإنَّما ذكر الله تعالى هنا الأنبياء الذين اشتهروا عند بني إسرائيل لأنّ المقصود محاجّتهم. وإنَّما ترك الله أن يقصّ على النّبيء صلى الله عليه وسلم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصّهم عليه، لأنّ المذكورين هم أعظم الرسل والأنبياء قصصاً ذات عبر. وقوله: {وكلم الله موسى تكليما} غُيّر الأسلوب فعُدل عن العطف إلى ذكر فعل آخر، لأنّ لهذا النّوع من الوحي مزيد أهمّيّة، وهو مع تلك المزيّة ليس إنزال كتاب من السماء، فإذا لم تكن عبرة إلاّ بإنزال كتاب من السماء حسب اقتراحهم، فقد بطل أيضاً ما عدا الكلمات العشر المنزّلة في الألواح على موسى عليه السّلام. وكلام الله تعالى صفة مستقلّة عندنا، وهي المتعلّقة بإبلاغ مراد الله إلى الملائكة والرسللِ، وقد تواتر ذلك في كلام الأنبياء والرسل تواترا ثبت عند جميع المِلّيِّين، فكلام الله صفة له ثبتت بالشرع لا يدلّ عليها الدليل العقليّ على التحقيق إذ لا تدلّ الأدلّة العقلية على أنّ الله يجب له إبلاغ مراده الناس بل يجوز أن يُوجد الموجودات ثم يتركها وشأنَها، فلا يتعلّق علمه بحملها على ارتكاب حَسَن الأفعال وتجنّب قبائحها. ألا ترى أنّه خلق العجماوات فما أمرها ولا نهى، فلو ترك النّاس فوضى كالحيوان لما ستحال ذلك. وأنّه إذا أراد حمل المخلوقات على شيء يريده فطرها على ذلك فانساقت إليه بجبلاّتها، كما فطر النحل على إنتاج العسل، والشجر على الإثمار. ولو شاء لحمل النّاس أيضاً على جِبِلّة لا يعدونها، غير أنَّنا إذ قد علمنا أنَّه عالم، وأنّه حكيم، والعلم يقتضي انكشاف حقائق الأشياء على ما هي عليه عنده، فهو إذ يعلم حسن الأفعال وقبحها، يريد حصول المنافع وانتفاء المضارّ، ويرضى بالأولى، ويكره الثّانية، وإذْ اقتضت حكمته وإرادته أن جعل البشر قابلاً للتعلّم والصلاح، وجعل عقول البشر صالحة لبلوغ غايات الخير، وغايات الشرّ، والتفنّن فيهما، بخلاف الحيوان الذي يبلغ فيما جبل عليه من خير أو شرّ إلى غاية فطر عليها لا يعدوها، فكان من المتوقّع طغيان الشرّ على الخير بعمل فريق الأشرار من البشر كان من مقتضى الحكمة أن يحمل النّاس على فعل الخير الذي يرضاه، وترككِ الشرّ الذي يكرهه، وحملُهم على هذا قد يحصل بخلق أفاضل النّاس وجبْلهم على الصلاح والخير، فيكونون دعاة للبشر، لكنّ حكمة الله وفضله اقتضى أن يخلق الصالحين القابلين للخير، وأن يعينهم على بلوغ ما جُبلوا عليه بإرشاده وهديه، فخلق النّفوس القابلة للنبوّة والرسالة وأمدّها بالإرشاد الدالّ على مراده المعبّر عنه بالوحي، كما اقتضاه قوله تعالى: {الله أعلم حيثُ يجعل رسالاته} [الأنعام: 124] فأثبت رسالة وتهيئة المرسَل لقبولها ومن هنا ثبتَت صفة الكلام. فعلمنا بأخبار الشريعة المتواترة أنّ الله أراد من البشر الصلاح وأمرهم به، وأن أمره بذلك بلغ إلى البشر في عصور، كثيرة وذلك يدلّ على أنّ الله يرضى بعض أعمال البشر ولا يرضى بعضها وأنّ ذلك يسمّى كلاماً نفسياً، وهو أزلي. ثُمّ إنّ حقيقة صفة الكلام يحتمل أن تكون من متعلَّقات صفة العلم، أو من متعلَّقات صفة الإرادة، أو صفة مستقلّة متميّزة عن الصفتين الأخريين؛ فمنهم من يقول: عَلم حاجة النّاس إلى الإرشاد فأرشدهم، أو أرادَ هَدي الناس فأرشدهم. ونحن نقول: إنّ الإلهية تقتضي ثبوت صفات الكمال الّتي منها الرضا والكراهيّة والأمر والنهي للبشر أو الملائكة، فثبتت صفة مستقلّة هي صفة الكلام النفسي؛ وكلّ ذلك متقارب، وتفصيله في علم الكلام. أمّا تكليم الله تعالى بعض عباده من الملائكة أو البشر فهو إيجاد ما يعرِف منه الملَك أو الرسول أنّ الله يأمر أوْ ينهَى أو يخبر. فالتكليم تعلُّق لصفة الكلام بالمخاطب على جَعْل الكلام صفة مستقِلّة، أو تعلّق العِلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب، أو تعلّق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب. فالأشاعرة قالوا: تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكاً من جهة السمع يتحصّل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات. وقد ورد تمثيله بأنّ موسى سمع مِثْل الرعد عَلِم منه مدلول الكلام النفسي. قلت: وقد مثّله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة " أنّ الله تعالى إذا قضى الأمر في السماء ضرَبَتْ الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقولِهِ كأنَّه سِلْسِلَة على صَفْوَاننٍ فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم، قالوا للّذي قالَ «الحقّ وهو العليّ الكبير " فعلى هذا القول لا يلزم أن يكون المسموع للرسول أو الملك حروفاً وأصواتاً بل هو علم يحصل له من جهة سمعه يتّصل بكلام الله، وهو تعلّق من تعلّقات صفة الكلام النفسي بالمكلِّم فيما لا يَزال، فذلك التعلّق حادث لا محالة كتعلّق الإرادة. وقالت المعتزلة: يخلق الله حروفاً وأصواتاً بلغة الرسول فيسمعها الرسول، فيعلم أنّ ذلك من عند الله، بعلم يجده في نفسه، يعلم به أنّ ذلك ورد إليه من قِبَل الله، إلاّ أنَّه ليس بواسطة الملك، فهم يفسّرونه بمثل ما نفسّر به نحن نزول القرآن؛ فإسناد الكلام إلى الله مجاز في الإسناد، على قولهم، لأنّ الله منزّه عن الحروف والأصوات. والكلام حقيقة حروف وأصوات، وهذه سفسطة في الدليل لأنّه لا يقول أحد بأنّ الحروف والأصوات تتّصف بها الذات العليّة. وهو عندنا وعندهم غير الوحي الذي يقع في قلب الرسول، وغير التبليغ الذي يكون بواسطة جبريل، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أوْ مِنْ وراء حِجاب} [الشورى: 51]. أمّا كلام الله الواردُ للرسول بواسطة الملَك وهو المعبّر عنه بالقرآن وبالتّوراة والإنجيل وبالزّبور: فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلِّمها الله للملك بكيفية لا نعلمها، يَعلَم بها الملَكُ أنّ الله يَدلّ، بالألفاظ المخصوصة الملقاةِ للملَك، على مدلولاتتِ تلك الألفاظ فيلقيها الملَك على الرسول كما هي قال تعالى: {أو يرسلُ رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] وقال: {نزل به الروح الأمين على قبلك لتكون من المنذِرين بلسان عربيّ مُبين} [الشعراء: 193 195]. وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدّين. ولكن أمسك بعض أيمّة الإسلام عن التصريح بحدوثه، أو بكونه مخلوقاً، في مجالس المناظرة التي غشيتْها العامَّة، أو ظُلمة المكابرة، والتحفّز إلى النبز والأذَى: دفعاً للإيهام، وإبقاء على النسبة إلى الإسلام، وتنصّلاً من غوغاء الطغام، فَرَحم الله نفوساً فُتنت، وأجسَاداً أوجعت، وأفواهاً سكتت، والخير أرادوا، سواء اقتصدوا أم زادوا. والله حسيب الذين ألّبوا عليهم وجمعوا، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا. وقوله {تكليماً} مصدر للتوكيد. والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسْبة وتحقيقها مثل (قَدْ) و(إنّ)، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز، ولذلك أكّدت العرب بالمصدر أفعالاً لم تستعمل إلاّ مجازاً كقوله تعالى: {إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} فإنَّه أراد أنّه يطهّرهم الطهارة المعنوية، أي الكمال النفسي، فلم يفد التأكيد رفع المجاز. وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذمّ زوجها رَوْح بن زِنْباع: بَكَى الخَزّ من رَوْح وأنْكَرَ جِلْده *** وعجَّتْ عجيجاً من جُذَامَ المَطَارف وليس العجيج إلاّ مجازاً، فالمصدر يؤكِّد، أي يُحقِّق حصول الفعْل الموكَّد على ما هو عليه من المعنى قبل التَّأكيد. فمعنى قوله: {تكليماً} هنا: أنّ موسى سمع كلاماً من عند الله، بحيث لا يحتمل أنّ الله أرسل إليه جبريل بكلام، أو أوحى إليه في نفسه. وأمّا كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفِرق، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الَّذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف. وقد حكى ابن عرفة أنّ المازري قال في «شرح التلقين»: إنّ هذه الآية حجّة على المعتزلة في قولهم: إنّ الله لم يكلّم موسى مباشرة بل بواسطة خَلق الكلام لأنَّه أكَّده بالمصدر، وأنّ ابن عبد السلام التّونسي، شيخ ابن عرفة، ردّه بأنّ التأكيد بالمصدر لإزالة الشكّ عن الحديث لا عن المحدّث عنه. وتعقّبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد ردّ ابن عبد السلام. وقوله: {رُسُلاً} حال من المذكورين، وقد سمّاهم رسلاً لما قدّمناه، وهي حال موطّئة لصفتها، أعني مبشّرين؛ لأنَّه المقصود من الحال. وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} تعليل لقوله: {مبشرين ومنذرين} ولا يصحّ جعله تعليلاً لقوله: {إنا أوحينا إليك} لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخُلُوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّاً على قولهم: {حتّى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه} [الإسراء: 93]. فموقع قوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} موقع الإدماج تعليماً للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل. والحجّة ما يدُلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير. والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب. فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم، واستحقّوا غضب الله وعقابه. فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا: {لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين} [القصص: 47]. وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يُغضب الله ويعاقب عليه، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبْحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة. ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنَّما تُقابِل محاولةَ عمل مّا، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أنْ يؤاخذ المبعوث إليهم، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار: إذ التبشير والإنذار إنَّما يبيّنان عواقب الأعمال، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه. فهذه الآية ملجئة جميعَ الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد، والراجعة إلى العمل، وفي وجوب معرفة الله. فإرسال الرسل عندنا من تَمَام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذْ لا يسأل عمّا يفعل، وكانت عدلاً بالمعنى الأعمّ. فأمّا جمهورُ أهل السنّة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمّموا وقالوا: لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها: مثل {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] وبالإجماع. وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلاّ أن يقال: إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضاً مجال للنظر، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله. والجواب أن يقال: إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة. فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة. وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول؛ فقالوا: إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام، وحرمة كثير، لا سيما معرفة الله تعالى، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون، وهو الضرّ الأخروي، من لحاق العذاب في الآخرة، حيث أخبر عنه جمع كثير، وخوف ما يترتَّب على اختلاف الفِرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات، وهو ضرّ دنيويّ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنونَ أو المشكوك واجب عقلاً، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سَبُعاً، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع. فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في «الكشاف» إذ قال: «فإن قلت: كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة، والرسلُ في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة، أي قبل الرسالة. قلت: الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميماً لإلزام الحجّة». يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلاً، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس: ربّنا لِمَ لَمْ ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا. وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنَى أصول الدّين، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في «التوضيح» «أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور» وصرّح أيضاً بأنَّها تعرف بالشرع أيضاً. وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا: لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل، فلم تكن للبعثة فائدة. ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد: انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك، فله أن يقول: لا أنظر ما لم يجب عليّ، لأنّ ترك غير الواجب جائز، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري. وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال. ولم أر للأشاعرة جواباً مقنعاً، سوى أنّ إمام الحرمين في «الإرشاد» أجاب: بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة، فلمن دعاه الرسول أن يقول: لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلاً، ولا يجب عليّ عقلاً ما لم أنظر، لأنّه وجوب نظري، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات، فأنا لا أرتّبها. وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتزاني. وقال ابن عرفة في «الشامل»: إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردٌّ متمكّن. والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يُسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا. وأنَا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين: أولهما: بالمنع، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفاً على الإصغاء إليه، والنظر في معجزته، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر، بحيث قد علم كلّ مَن له علاقة بالمدنيَّة البشرية بأنّ دُعاة أتَوا إلى النّاس في عصور مختلفة، ودعوتهم واحدة: كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيماناً وكفراً، ونجاة وارتباقاً، استقراراً لا يجدون في نفوسهم سبيلاً إلى دفعه، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامععِ تلك الأخبار الماضية والمحاورات، فوجب عليه وجوباً اضطرارياً استماعُه والنظرُ في الأمر المقرّر في نفوس البشر، ولذلك آخذَ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة. ولذلك فلو قَدّرْنا أحداً لم يخالط جماعات البشر، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا، لَما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده. وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي، ولا عقلي نظري، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها. وثاني الجوابين: بالتسليم، غير أنّ ما وقِر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه، ويتلقّى دعوته وتحدّيهُ ومعجزته، فلا يشعر إلاّ وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوِّ، فحرّكت فيه داعية النظر، فهو ينجَذب إلى تلقّي الدعوة، رويداً رويداً، حتّى يجد نفسه قد وعاها وَعَلِمها علماً لا يستطيع بعدَه أن يقول: إنّي لا أنظر المعجزة، أو لا أصغي إلى الدعوة. فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى، فكان مؤاخذاً، فلو قدّرنا أحداً مَرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطباً، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحَم الرسولَ لا تتعطّل الرسالة، ولكنّه خسر هديه، وسَفِه نفسه. ولا يَرِد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هارباً حينئذٍ، لا يتوجّه إليه وجوبُ المعرفة، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلاّ بعد أن علم أنّه قد تهيَّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، وكفى بهذا شعوراً منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذاً على استحبابِه العمى على الهدى، كما قال تعالى في قوم نوح: {وإنّي كلَّما دعوتُهم أي إلى الإيمان لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشَوْا ثيابهم} [نوح: 7]. والإظهار في مقام الإضمار في قوله: {بعدَ الرسل} دون أن يقال: بعدَهم، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال. ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله: {عزيزاً حكيماً}: أمّا بوصف الحكيم فظاهرة، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالباً من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة، لا يُسأل عما يفعل، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات. وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضاً من ضروب الحكمة الباهرة.
|